الاحتفال بالمسيح الكلمة في الكنيسة

مقدّمة إلى الاحتفال بأسبوع الكتاب المقدس

الكلمة هي سرّ العلاقة بين الله والإنسان المخلوق على صورته وكمثاله. الله إله الحياة. يتكلّم ويُصغي. بكلامه يُعبّر عن محبّته وإرادته وتدبيره للناس الذين خلقهم للشركة في حياته الإلهيّة.

على امتداد تاريخ شعب العهد القديم، الشعب المختار منطلقًا لاجتماع الأمم وإيمانها بالله الواحد، كان الله يكلّم شعبه ويسير معهم. وكان العهد قاعدة العلاقة بينهم انطلاقًا من الإيمان والمحبّة والأمانة. ولم يخذل الله شعبه ولا تخلّى عنه على الرغم من تخلّي الشعب عن شريعة الربّ ومخالفته لوصاياه. الله يبقى أمينًا حتّى عندما لا يكون الشعب أمينًا. لذلك كانت كلمة الله لهم كلمة رجاء تُجدّد فيهم الوعد والأمل بالخلاص.

“كلَّمَ اللهُ آباءَنا مِنْ قَديمِ الزّمانِ بِلِسانِ الأنبـياءِ مَرّاتٍ كَثيرةً وبِمُختَلفِ الوَسائِلِ، ولكنّهُ في هذِهِ الأيّامِ الأخيرَةِ كَلّمَنا باَبنِهِ الذي جَعَلَهُ وارِثًا لِكُلّ شيءٍ وبِه خلَقَ العالَمَ.” (عب 1: 1-2؛ راجع أيضًا الدستور العقائديّ في الوحي الإلهيّ رقم 4). وفي ملء الزمن، يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية (4،4)، فلمّا تَمّ الزّمانُ، أرسَلَ اللهُ اَبنَهُ مَولودًا لاَمرَأةٍ، وعاشَ في حُكمِ الشّريعَةِ. وكما يقول القديس يوحنّا في مطلع إنجيله، في البَدْءِ كانَ الكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ كانَ عِندَ اللهِ، وكانَ الكَلِمَةُ اللهَ. هوَ في البَدْءِ كانَ عِندَ اللهِ. بِه كانَ كُلّ شيءٍ، وبِغَيرِهِ ما كانَ شيءٌ مِمّا كانَ. فيهِ كانَتِ الحياةُ، وحياتُهُ كانَت نُورَ النّاسِ. والنّورُ يُشرِقُ في الظّلْمَةِ، والظّلْمَةُ لا تَقوى علَيهِ. ظهَرَ رَسولٌ مِنَ اللهِ اَسمُهُ يوحنّا. جاءَ يَشهَدُ لِلنّورِ حتى يُؤمنَ النّاسُ على يدهِ. ما كانَ هوَ النّورَ، بل شاهدًا لِلنّورِ. الكَلِمَةُ هوَ النّورُ الحَقّ، جاءَ إلى العالَمِ لِـيُنيرَ كُلّ إنسانٍ. وكانَ في العالَمِ، وبِه كانَ العالَمُ، وما عَرَفَهُ العالَمُ. إلى بَيتِهِ جاءَ، فما قَبِلَه أهلُ بَيتِه. أمّا الذينَ قَبِلوهُ، المُؤمِنونَ باَسمِهِ، فأعطاهُم سُلطانًا أنْ يَصيروا أبناءَ اللهِ، وهُمُ الذينَ وُلِدوا لا مِنْ دَمٍ ولا مِنْ رَغبَةِ جسَدٍ ولا مِنْ رَغبَةِ رَجُلٍ، بل مِنَ اللهِ. والكَلِمَةُ صارَ بشَرًا وعاشَ بَينَنا، فرأَينا مَجدَهُ مَجدًا يَفيضُ بِالنّعمَةِ والحَقّ، نالَهُ مِنَ الآبِ، كاَبْنٍ لَهُ أوحَدَ. (يوحنا 1، 1-14).

في المسيحيّة الكلمة حضورٌ وفعلٌ أي التزامٌ أبديّ. المسيح هو كلمة الله وملء حضوره في العالم، حضورًا نقدر أن نقاربه بحواسّنا. ففي رسالته الأولى، يؤكّد يوحنا “والحياةُ تَجَلّتْ فَرَأيْناها والآنَ نَشهَدُ لَها ونُبَشّرُكُم بالحياةِ الأبَدِيّةِ التي كانَت عِندَ الآبِ وتجَلّتْ لَنا، الذي رَأيناهُ وسَمِعناهُ نُبَشّرُكُم بِه لتَكونوا أنتُم أيضًا شُركاءَنا،

كما نَحنُ شُرَكاءُ الآبِ واَبنِهِ يَسوعَ المَسيحِ.” (1 يو 1: 2-3؛ راجع أيضًا العدد الأول من الدستور العقائديّ في الوحي الإلهيّ – المجمع الفاتيكانيّ الثاني). إن حدث يسوع المسيح، أي بشارته وأعماله وموته وقيامته، هو العلامة الحسيّة التي بها عرفنا سرّ محبّة الآب السماويّ وقوّة الروح القدس. ينقل إلينا الرب يسوع كلمة الله في ذاته ويكشف لنا بذاته عن جوهر الآب. فكلّ ما قاله يسوع المسيح هو كلام الله الآب، وكلّ ما قام به، ولا سيّما الأعاجيب والمعجزات، إنّما هي علامات الملكوت وحضور الله وسط شعبه. وبسرّ موت المسيح وقيامته أتمّ الله الآب وعوده وجدّد عهده الذي ختمه بدم المسيح عهدًا أبديًّا، لمغفرة الخطايا وللحياة الأبديّة. فالمسيح هو “بَهاءُ مَجدِ اللهِ وصُورَةُ جَوهَرِهِ” كما يقول يقول بولس الرسول (عبرانيين 1، 3). في المسيح الرسالة والمرسَل واحدٌ. إنّه ينقل الرسالة والرسالة هو. هو المرسَل للخلاص والمخلِّص هو! فلا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يكشف له. المسيح الكلمة هو تمام الوحيّ الإلهيّ واكتمال كشف الله عن ذاته للخليقة والإنسان.

تُعتبر المسيحيّة بحقٍّ ديانة الكلمة. انطلاقتها كانت ببشارة الرب يسوع بعد عماده في الأردنّ ودعوته إلى التوبة وإعلانه حلول ملكوت الله. وكان لوقع البشارة الأثر الكبير على نفوس سامعي يسوع المسيح وأتباعه الذين آمنوا به وصاروا تلاميذه، ولا سيما على الرسل الذي اختارهم ودعاهم وصاروا شهودًا لموته وقيامته. وقد ترك لنا بعض الرسل كتاباتٍ نقلاً عن أقوال المسيح وسردًا لعجائبه وأعماله نجدها مجموعةً في كتاب العهد الجديد الذي يتضمّن الأناجيل وأعمال الرسل والرسائل المسمّاة كاثوليكيّة وسفر الرؤيا. وبما أنّ يسوع هو كلمة الله وكمال الوحي وتمام الأنبياء، فلا انفصال بين كلام الله في العهد القديم وكلمته في العهد الجديد، بل هنالك وحدةٌ جوهريّة ترتكز على تدبير الله الخلاصيّ الواحد. والكنيسة المقدّسة تستند إلى الكتاب المقدس والتقليد الرسوليّ لتتابع إعلان الإنجيل والكرازة بملكوت الله وهما علّة وجودها وغايتها إلى أن يؤمن العالم ويحلّ آخر الزمن.” فجاء هذا التقليد المقدّس والكتاب المقدّس في كِلا العهدين وكأنّهما مرآة يتاح فيها لجماعة المسيحيّين أن يتأمّلوا مسيرتهم على الأرض، إلى أن يَحينَ الوقتُ، ويصِلوا إلى رؤيتهم الله كما هو: وجهًا لوجه” (يو 3: 2؛ راجع أيضًا العدد 7 من الدستور في الوحي الإلهيّ). وبفضل هذا التقليد، حافظت الكنيسة على الكتاب المقدس وفهمته وفسّرته تفسيرًا صحيحًا فأثمر فيها حياةً وعملاً : ” إنّ تعاليمَ الآباء القدّيسين تشهد على حضور هذا التقليد حضورًا محييًا: فهو يتحوّل بثروتِه كلِّها إلى عملٍ وحياةٍ في الكنيسة، عند ممارستِها الإيمان وإقامتِها الصلاة. وبفضلِ هذا التقليد عينه، ثبَّتَتِ الكنيسةُ اللائحةَ الصحيحةَ للكتبِ المقدّسة. وبفضله اهتدى المؤمنونَ إلى فهم الكتبِ الملهمةِ فهمًا تامًّا” (الدستور العقائديّ في الوحي الإلهيّ، رقم 8).

واحتفال الكنيسة بالليتورجيا هو أوّلاً استذكار كلمات يسوع واستدعاء الروح القدس لتأوينها. أجل، بقوّة الروح القدس، لا يزال الآب يكلّمنا بابنه الحبيب في كلّ وقتٍ، والمسيح يحضر بيننا، ليس فقط بالروح، ولكن حضورًا حقيقيَّا بإنجيله وبالأسرار. فكلّما اجتمعت الكنيسة، تستذكر كلمات سيّدها وتنصاع لوصيّته، وتصنع ذكره إلى أن يعود بالمجد. ولذلك يحتلّ الاحتفال بكلمة الله في الكنيسة أهميّةً كبرى وأساسيّة.

تحتفل الكنيسة بالمسيح الكلمة في كلّ احتفالٍ ليتورجيّ لأنّ كلمة الله مصدر وجودها ونبع قداستها وغايتها في إتمام إرادة الله. ولهذا تحيط الجماعات المسيحيّة ولا سيّما في شرقنا الكتاب المقدّس بكلّ إجلال وكرامة لأنّه يحوي كلام الله، فتبخّره، وتسجد له وتقبّله وتضيء حوله الشموع لأنّها تعتبره مصدر كلام الحياة ووسيلة حضور المسيح الحيّ فيها. ولكنّ الأهمّ هو في الإصغاء المتقَن لكلمة الله. يقرأها المؤمن ليستمدّ منها القوة والقداسة بما يُعرف في التراث الغربيّ بالقراءة المقدّسة “Lectio Divina”، وتعلنها الجماعة وتبلّغها وتنادي بها، أحيانًا كثيرةً بالترنيم والتجويد، وأحيانًا بالقراءة المتأنّية، في وسط الجماعة الملتئمة التي أعضاؤها جميعهم متساوون أمام الكلمة وخاضعون لها. يصغون بانتباه شديدٍ إليها وإلى التعليم الناشئ من تقليد الكنيسة وتراثها على مدى العصور. يستجلون من سماعها مشيئة الله، ويعملون بالفضيلة والقداسة على تحقيقها في حياتهم من أجل خلاص العالم. لذلك يؤمنون بأنّ كلمة الله هي كلمة الحياة تغيّر القلوب وتقدّس المؤمنين وتخلّصهم. وبهذه الكلمة عينها، تخاطب الكنيسة الآب السماويّ وتستدعي قوّة الروح القدس. إن شفاعة الابن تجيز لها أن تتكلّم باسم البشريّة وأن تشفع لها باسم ربّها. وهي تعلم أن الله الآب يُصغي إلى كلامها ويشعر بصراخ المظلومين والمضطهدين ويهبّ لنجدتهم. فكلمة الله المغروسة في أرض البشر، لا تعود من حيث أتت ما لم تحقّق غايتها وتُؤتي ثمارها، ثلاثين وستّين ومئة.

إذا كانت الكنيسة تحتفل بالكلمة كل يومٍ من أيام السنة فلماذا يصرّ الآباء الرؤساء في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان على تكريس أسبوعٍ لكلمة الله؟ لا ريب في أنّ آباءنا البطاركة على يقينٍ بأنّه لا بدّ من التذكير الدائم بحضور الكلمة ودورها الفعّال في حياة الكنيسة بصفتها جماعة وفي حياة المؤمنين منفردين. وفي هذا التكريس تشجيعٌ على قراءة الكلمة وعلى الإصغاء العميق لمفاعيلها، وكذلك دعوةٌ إلى العمل بموجبها وإعلانها وتبليغها إلى أقاصي الأرض تجاوبًا مع دعوة الربّ يسوع المسيح نفسه. وهذا كلّه يُنعش الإيمان ويحيي الرجاء. وكما في مثل الزارع في إنجيل القديس متّى، لا بدّ وأن نسعى لنكون الأرض الصالحة التي تتقبّل كلمة الله وتتيح لها أن تثمر ثمرًا وفيرًا. أضف إلى ذلك أنّ كلمة الله تحيي فينا على الدوام الرجاء إذ تُظهر لنا باستمرار محبّة الله للبشر وحنوّهم على كلٍّ منهم وسهره الأبويّ عليهم. وفي أوقات الشدّة العصيبة التي نمرّ بها في بلادنا، في زمن الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وبعد انفجار المرفأ في العاصمة وانتشار جائحة كورونا، فيما تبدو الآفاق مسدودةً، تذكّرنا كلمة الله بأنّه حاضرٌ معًا، ويسير إلى جانبنا، يحفظ عهده ويقودنا إلى الغاية. كلما قرأنا الكتاب المقدس نتذكر ما فعله الله لشعبه ونعي ما يفعله لكنيسته وشعبه اليوم. هذه الكلمة عينها تدعونا إلى التشبّث بإيماننا، وإلى المثابرة في صلواتنا، وإلى التضامن الأخويّ ولا سيّما تجاه المتألّمين والذين يعانون من المشقّات. كلام الله يضع أمام أعيننا صليب الربّ وقيامته فينعش فينا الرجاء بأن المسيح إلهنا انتصر على الموت وخلّص العالم.

نضع بين أيدي المؤمنين والرعايا والجماعات الرهبانيّة والأبرشيّات مواضيع لكلّ يوم من أيّام أسبوع الكتاب المقدس الممتدّ من24 إلى30 كانون الثاني 2021 وكلّنا أمل بأنّ النصوص المختارة من قبل معلّمي الكتاب المقدّس والتأمّلات المرافقة سوف تُغني احتفالهم بكلمة الله وسوف تُنعش رجاءهم بقوّة المحبّة وبانتصار المسيح القائم.

إنّ الاحتفال بأسبوع الكتاب المقدس لا يُغني عن قراءة الكلمة والإصغاء إلى معانيها، بل على العكس يحثّنا جميعًا على تكريس محلٍّ لها في قلوبنا وحياتنا على امتداد أيام السنة، وطوال حياتنا. فلنصلِّ بحرارةٍ لأجل أن تكون كلمة الله لشعبنا الذي يعاني شتّى أنواع المحن كلمة الرجاء.

Author

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of CloudFlare's Turnstile service is required which is subject to the CloudFlare Privacy Policy and Terms of Use.